تعريف الجنايات لغة واصطلاحاً:
الجنايات: جمع جناية، وهي في اللغة مصدر جني يجني، إذا أذنب، وجنى على نفسه: أساء إليها، وجنى على قومه: أذنب ذنباً يُؤْخذ به.
وتطلق الجناية على التعدّي على بدن، أو مال، أو عرض.
وأما الجناية في الاصطلاح: فهي التعدّي على البدن بما يوجب قِصاصا، أو مالاً.
فالجناية إذاً في اصطلاح الفقهاء أخصّ مما هي في اللغة.
حكم الجناية شرعاً، ودليله:
الجناية على البدن حرام شرعاً ومنهيُّ عنها، فلا يجوز التعدّي على الأبدان، ولا توجيه الأذى إليها.
وقد انعقد إجماع المسلمين على تحريم القتل بغير حق، ولم يخالف بذلك أحد.
ودليل هذا الإجماع الكتاب والسنّة:
أما الكتاب: فقول الله تبارك تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً). (سورة الإسراء/33).
[لوليِّهِ: لوارثه. سُلطاناً: تسلّطاً على القاتل. فلا يسرف في القتل: فلا يتجاوز الحدّ، فيقتل غير قاتل مورثه. منصوراً: مُعاناً على أخذ حقه].
وقول الله عزَّ وجلَّ: (ومن كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ). (سورة النساء/ 92) أي: ما ينبغي أن يصدر منه قتل له.
وقوله ـ أيضاً ـ عزَّ من قائل: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) (سورة النساء/ 93).
وأما الأدلة من السنّة فكثيرة:
منها: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحلُّ دمُ امرىءٍ مُسلمٍ يشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأنّي رسولُ الله إلاَّ بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزاني، والنفسُ بالنَّفسِ، والتَّاركُ لدينهِ المُفارق للجماعةِ". (رواه البخاري [6484] في الديات. باب: قوله تعالى (أن النفس بالنفس..)؛ ومسلم [1676] في القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم).
[الثِّيب الزاني: هو مَن سبق له زواج، ذكراً كان أم أُنثى. المفارق لدينه: التارك له، وهو المرتد].
ومنها: أيضاً ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السَّبعَ الْموبقاتِ، قيل: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال: الشركُ باللهِ، والسحرُ، وقتلُ النفس التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحقِ، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الربا، والتولِّي يومَ الزَّحفِ، وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمناتِ". (أخرجه البخاري [2615] في الوصايا، باب: قول الله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً..)؛ ومسلم [89] في كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبائر وبيانه. ورواه أيضاً أبو داود [2874] في الوصايا، باب: ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم؛ والنسائي [6/257] في الوصايا، باب: اجتناب أكل مال اليتيم).
[الموبقات: المهلكات. التولّي يوم الزحف: الفرار عن القتال عند لقاء الأعداء. قذف المحصنات: اتهام العفيفات بالزنى].
|هذا ولا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير حق، وأنه من أكبر الكبائر بعد الشرك، وفاعله المستحلّ له كافر من غير خلاف، ومخلد في نار جهنم. أما إذا قتل متعمداً، وهو غير مستحل لذلك: فإنه يحكم عليه بالفسق والفجور، ولا يحكم عليه بالكفر. وأمره بعدئذ إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، وتوبته إذا تاب توبة نصوحاً مقبولة عند الله تعالى ولا يستلزم إثمه التخليد في نار جهنم.|
ودليل ذلك: قول الله عزّ وجل: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ) (سورة النساء/ 48).
وقوله الله تبارك وتعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) (سورة الزمر/53).
ويدل على ذلك أيضاً: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمنْ كان قبلَكُم رجُلٌ قتلِ تسعةً وتسعينَ نَفْساً، فسأل عن أعلم أهلِ الأرْضِ، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إِنَّهُ قتل تسعةً وتسعينَ نفساً فهل لهُ من توبةٍ؟ فقال: لا، فقتلَهُ فكملَ به مائةً، ثُمَّ سألَ عن أعلم أهلِ الأرضِ، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائةَ نَفْسٍ فهل له من توبةٍ؟ فقال: نعَمْ، ومَنْ يَحولُ بينَهُ وبينَ التوبةِ؟ انطلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا، فإنَّ بها أُناساً يَعبُدون الله تعالى فاعبدِ الله معهم، ولا ترجعْ إلى أرضك فإنها أرضُ سُوءٍ، فانطلقَ حتى إذا نصَفَ الطريقَ أتاه الْموتُ، فاختصمتْ فيه ملائكةُ الرحمة، وملائكةُ العذاب، فقالت ملائكةُ الرحمةِ: جاءنا تائباً مُقْبلاً بقلبهِ إلى اللهِ تعالى، وقالتْ ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قَطُّ، فأتاهم مَلَكٌ في صُورةِ آدميٍّ، فجعلوه بينَهُم ـ أي حَكَماً ـ فقال: قيُسوا ما بينَ الأرضينِ، فإلى أيِّهما كان أدنى فهو له، فقاسُوا فوجدوه أدْنى إلى الأرضِ التي أراد، فقبضته ملائكةُ الرحمةِ". (أخرجه البخاري [3283] في الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل؛ ومسلم [2766] في التوبة، باب: قبول توبة القاتلِ).
هذا، وإذا كانت التوبة تصحّ وتقبل من الكافر، فقبولها من الفاسق والعاصي أولى.
وأما قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها..) (سورة النساء/ 93) فمحمول على مَن استحل القتل عمداً بغير حق، أو على أن هذا جزاؤه لو لم يَتُب، أو لم يغفر الله له.
وقيل: هذا من باب المطلق الذي قيّده قوله عزّ وجل: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ) (سورة النساء/ 48).
الجناية على النفس:
ويقصد بالجناية على النفس هنا القتل وإزهاق الروح، وهي أنواع ثلاثة، لكل نوع منها حكم يُبيَّن في حينه.
أنواع القتل:
القتل ثلاثة أنواع: القتل العمد، القتل شبه العمد، القتل الخطأ. ولكل نوع من هذه أنواع الثلاثة حقيقة وحكم يتعلق به.
1- القتل العمد:
وحقيقة القتل العمد: أن يقصد قتل شخص بما يقتل غالباً. ومن هذا التعريف لحقيقة القتل العمد يتبيّن أنه لا يسمى قتل عمد، إلا إذا تحقق فيه أمران:
أحدهما: قصد الشخص بالقتل، فلو كان غير قاصد لقتله، فإنه لا يسمى عمداً: كمَن رمى سهماً يريد صَيْداً فأصاب شخصاً، فقتله.
ثانيهما: أن تكون الوسيلة في القتل مما يقتل غالباً. فلو أنه ضربه بعصاً صغيرة، أو بحصاة صغيرة في غير مقتل، فمات من ذلك الضرب، فإنه لا يسمى ذلك القتل قتل عمد، لأن تلك الوسيلة لا تقتل في الغالب.
صور من القتل العمد:
وللقتل العمد صور كثيرة يتحقق فيها كلها الأمران المذكوران آنفاً، ومن هذه الصور:
أ_ ضربه بحد السيف فمات من ذلك الضرب، أو أطلق عليه رصاصاً، فأصابه فمات منه.
ب_ غرز إبرة في مقتل: كدماغ، وعين، وخاصرة، ومثانة وما أشبه ذلك، مما يقول عنه أهل الاختصاص: إنه مقتل، فإذا مات بسبب شيء من ذلك كان قتله عمداً.
ج_ ضربه بمثقّل كبير مثله غالباً، سواء كان من حديد، كمطرقة وشبهها، أم كان من غير الحديد، كالحجر الكبير، والخشبة الكبيرة. ويدل لهذا كله ما رواه أنس رضي الله عنه؛ أن جارية وُجِد رأسُها قد رُضَّ بين حجرين، فسألوها: مَنْ صنعَ بك هذا؟ فُلانٌ فُلانٌ؟ حَتَّى ذكرُوا يهودياً، فأومأتْ برأسِها، فأخِذ اليهوديُّ فأقرّ، فأمر رسول صلى الله عليه وسلم أنْ يُرضَّ رأسه بينَ حَجَرينِ. وفي رواية: فجيءَ بها، وبها رمَقٌ. (أخرجه البخاري [2595] في الوصايا، باب: إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينّة جازت؛ ومسلم [1672] في القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره.
[رضّ رأسها: دُقَّ رأسها. والرضُّ: دق الشيء بين حجرين وما جرى مجراهما. فأومأت برأسها: أشارت به].
د_ حرقه بالنار، أو صلبه، أو هدم عليه حائطاً، أو سقفاً، أو وطأه بدابة أو سيارة، أو دفنه حيّاً، أو عصر خصيتيه عصراً شديداً فما، وكذلك أمثال هذه الحالات؛ فإن قتله بها يكون عمداً.
ه_ خنقه: بأن وضع يده على فمه، أو وضع مخدّة على فمه حتى مات من انقطاع النفس.
فأن خلاّه قبل أن يموت، فإن انتهى إلى حركة المذبوح، أو ضعف وبقي متألماً حتى مات، فذلك كله من قبيل القتل العمد.
و_ أوجره سمّاً قاتلاً، أو حبسه ومنعه الطعام والشراب حتى مات، أو سحره، وكان السحر مما يقتل غالباً، فكل هذا من القتل العمد.
ز_ ضربه بعصاً صغيرة، أو رماه بحجر صغير، إلا أنه وإلى بين الضرب أو الرمي حتى مات، أو اشتد به الألم وبقي متألماً حتى مات، فهذا أيضاً قتل عمد.
ح_ شهد رجلان عند القاضي على شخص بأنه قتل عمداً، فقُتل، ثم رجعا عن الشهادة، وقالا تعمدنا الكذب لزمهما القصاص، لأنهما تسبباً بإهلاكه، فكان ذلك بمنزلة القتل العمد منهما.
وهناك صور أُخرى للقتل العمد مذكورة في كتب الفقه المطولة.
2- القتل شبه العمد:
وحقيقة القتل شبه العمد: أن يستعمل في القتل أداة لا تقتل غالباً، قاصداً بها الشخص عدواناً من غير حق، إلا أن الشخص قد مات بذلك الفعل.
وللقتل شبه العمد صور كثيرة، نذكر منها:
أ_ ضربه بعصاً صغيرة ضرباً خفيفاً، فأصاب منه مقتلاً فمات من ذلك الضرب.
ب_ ألقاه في ماء مغرق إلا أن ذلك الشخص يحسن السباحة، ولكنه فاجأه ريح شديد، أو موج، فغرق ومات. أما إذا كان لا يحسن السباحة، فإنه عندئذ يكون قتل عمد.
ج_ أن يربطه ويلقيه إلى جانب ماء، قد يزيد، وقد لا يزيد، فزاد الماء، ومات الشخص. أما إذا كانت الزيادة متيقنة، فحصلت، ومات، كان ذلك قتل عمد.
وهناك صور كثير أمسكنا عنها خشية الإطالة، وسوف تجدها إن شئت في المطولات من كتب الفقه.
3- القتل الخطأ:
وحقيقة القتل الخطأ: أن يقع من الشخص من غير أن يقصده، ولا يريده؛ وذلك: كمَن زلقت رجله فوقع على إنسان فقتله، أو رمى صيداً، فأصاب إنساناً، أو رمى شخصاً فأصاب غيره، فكل هذه الصور وغيرها كثير، تُعدّ من قبيل القتل الخطأ، الذي لم توجد فيه حقيقة القتل العمد، ولا شبه العمد.
حكم أنواع القتل الثلاثة:
قلنا: إن لكلل نوع من أنواع القتل حكماً يخصّه، بل أحكام، هذا ما سنتحدث عنه في العجالة الآتية:
حكم النوع الأول، وهو القتل العمد:
القتل العمد له حكمان: حكم دياني (أي في الآخرة)، وحكم قضائي (أي في الدنيا).
أما حكمه الدينيُّ الأُخروي: فهو التحريم، ويترتب عليه إثم عظيم يلي درجة الكفر، والعياذ بالله، والعذاب الأليم في جهنم، إن لم يلجأ ذلك القاتل إلى التوبة، وتتداركه عناية الله بالعفو والرحمة. وإلى هذا تشير الآية الكريمة: (ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) (سورة النساء/ 93).
وأما الحكم القضائي الدنيوي، فهو القصاص "القود" ويسمى القصاص قوداً، لأنهم كانوا يقودون الجاني بحبل ونحوه إلى موضع قتله والقصاص منه.
ودليل هذا الحكم الذي هو القصاص قول الله عز وجل: (يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فأتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (سورة البقرة/ 178-179).
[كتب: فُرض. القِصاص: الجزاء على الذنب، وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل، وسمي قصاصاً لأن المقتصّ يتتبع جناية الجاني ليأخذ مثلها. عُفي له من أخيه: ترك القصاص منه، وفي ذكر "أخيه" تعطف داعٍ إلى العفو. فاتبّاع بالمعروف: مطالبة القاتل بالدية من غير عنف. وأداءٌ إليه بإحسان: على القاتل أداء الدية إلى الوارث بلا مطل ولا بخس. ذلك تخفيف: العفو عن القصاص إلى الدية تيسير من الله ورحمة بعباده حيث لم يضيق عليهم بتشريع حكم واحد وهو القصاص. فمَن اعتدى بعد ذلك: أي ظلم القاتل، واعتدى عليه بالقتل بعد العفو، فله عذاب أليم في الآخرة بالنار، أو في الدنيا بالقتل].
ترك القصاص والعفو عنه:
القصاص هو الحكم الأصليّ المترتب على القتل العمد، وهو حقّ أولياء القتيل، فإن شاؤوا استوفوه، وعلى القاضي مساعدتهم، وتمكينهم من نيل حقهم، كما قال عزّ وجل: (وَمَن قُتلَ مَظلُوماً فَقدْ جَعَلنَا لِوَليِّهِ سُلطاناً فَلا يُسرِف فّي القَتلِ إِنهُ كَانَ مَنصُوراً) (سورة الإسراء/ 33) أي: معاناً من قبل القضاء. وإن شاؤوا عفَوْا عن القصاص، أو عفا بعضهم إلى الدية، فأن فعلوا، أو فعل بعضهم ذلك، وجبت لهم الدية حالّة في مال القاتل، وكان عليه أداؤها إليهم دون مماطلة أو بخس. وإلى هذا الحكم: وهو وجوب الدية، يشير قوله الله تبارك وتعالى: (فَمنْ عُفيَ لهُ مِنْ أَخيهِ شَيءٌ فَأتِّباعٌ بِالمعرُوفِ وَأَداءٌ إليهِ بِإحسَانٍ) (سورة البقرة/ 178).
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن للولي الحقَّ في القصاص، أو العفو عنه إلى الدية: روي أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن قُتِلَ لهُ قتيلٌ فَهُوَ بخير النَّظرين: إمَّا أنْ يَعفوَ وإمَّا أن يَقتُلَ". وفي رواية: "إما أن يُقَادَ وإما أن يُفْدَى". (أخرج الترمذي الأولى [1405] في الديات، باب: ما جاء في حكم وليّ القتيل في القصاص والعفو، وأخرج الثانية النسائي [8/38] في القسامة، باب: هل يؤخذ من قاتل العمد الدية إذا عفا وليّ المقتول عن القود؟).
ومما ينبغي أن يعلم أن عفو بعض أولياء القتيل عن القصاص كعفو جميعهم لأن القصاص لا يتجزّأ، فإذا عفا بعضهم انتقل حق الجميع إلى الدية، وليس لأحدهم أن يطالب بالقصاص.
تغليظ الدية:
قلنا فيما سبق إن أولياء القتيل إذا تركوا القصاص، ورضوا بالدية، وجبت لهم على القاتل، وكانت مغلّظة، تشديداً على القاتل.
وتغليظ الدية يكون من ثلاثة أوجه:
أ_ كون الدية على ثلاث أنواع من الإبل من حيث أسنانها، لا على خمسة أنواع، كما هي في قتل الخطأ، وسيأتي بيانها.
ب_ كون الدية حالّة.
ج_ كونها في مال الجاني وحده، فلا تجب على أحد من أوليائه. ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَعقلُ العاقلةُ عمداً ولا صلحاً..". (رواه البيهقي [8/104]، عن ابن عباس رضي الله عنهما).
وروي مالك في الموطأ [2/865] عن ابن شهاب أنه قال: (مضتِ السنَّةُ أن العاقلةَ لا تَحملُ شيئاً من دية العَمْدِ إلا أن يشاؤوا).
دليل تغليظ الدية:
ودليل تغليظ الدية في القتل العمد، ما رواه الترمذي (رقم [1387] في الديات، باب: كم هي من الإِبل؟)، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قَتَلَ مُتعمِّداً دُفع إلى أولياءِ المقتولِ، فإنْ شاؤُوا قتلوهُ، وإن شاؤُوا أخذوا الدِّيةَ، وهي ثلاثونَ حِقَّه، وثلاثون جَذَعَة، وأربعون خَلِفَة، وما صالحُوا عليه فهُوَ لهم، وذلك لتشديد العقل".
[حِقّة: الحقة من الإبل ما استكملت ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، سمِّيت بذلك، لأنها استحقت أن تركب ويُحمل عليها. جَذَعة: الجذعة ما استكملت أربع سنين، ودخلت في الخامسة، سمِّيت بذلك، لأنها أجذعت مقدَّم أسنانها، أي أسقطته. خَلِفة: الخلفة هي التي تكون أولادها في بطونها].
العفو عن الدية:
لوليّ المقتول أن يعفو عن القصاص، وينتقل إلى الدية، كما قلنا، وكذلك له أن يعفو عن الدية، أو يعفو عن بعضها، فإذا عفا عنها، أو عن بعضها سقط المعفوّ عنه من الدية، لأن الله عزّ وجل، شرع الدية حقّاً للعبد، وتسوية للعلاقات الإِنسانية حتى لا يتهدّدها الخطر والضغائن والأحقاد، فإذا عفا صاحب الحق عن حقه، كان ذلك له، بل هو الأفضل والأنفع له ولغيره. قال الله عزّ وجل: (وأن تعفوا أقرب للتقوى) (سورة البقرة/ 237).
حكم النوع الثاني، وهو القتل شبه العمد:
وللقتل شبه العمد ـ وقد عرفت حقيقته ـ أيضاً حكمان، دينيّ أُخروي، وهو الحرمة، والإِثم، واستحقاق العذاب في الآخرة، لأنه قتل بقصد، لكن عقابه دون عقاب القتل العمد.
وأما حكمه القضائي الدنيوي، فهو الدية مغلظة من بعض الوجوه، وقد مرَّ معنا معنى تغليظ الدية.
فإن هذا النوع من القتل لا يستوجب قصاصاً، كالقتل العمد، وإن طالب به وليّ المقتول. وإنما تثبت به الدية على عاقلة القاتل مؤجّلة، تُستوفي خلال ثلاث سنوات. فكونها على العاقلة ومؤجّلة تخالف دية العمد العدوان، وكونها مثلّثة ذات أعمار معينة تشبه دية العمد، فهي مغلّظة من هذين الوجهين.
ودليل هذا الحكم ما رواه أبو داود [4547] في الديات، باب: في الخطأ شبه العمد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عَقْلُ شِبْهِ الْعمدِ مغلَّظةٌ مثلُ عَقْلِ العمْدِ ولا يُقتلُ صاحبه".
[العقل: الدية. وأصلها أن القاتل كان إذا قتل قتيلاً جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول ليقبلوها منه، فسمِّيت الدية عَقْلاً. والعاقلة: هم العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ، وشبه العمد].
وروي النسائي [8/40] في القسامة، باب: كم من دية شبه العمد؟، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شِبْهُ الْعَمْدِ قتيل السَّوطِ والعصا، فيه مائةٌ من الإِبل، منها أن أربعون في بطونها أولادها".
وأما كون الدية في قتل شبه العمد على العاقلة، فلما رواه مسلم [1681] في القسامة، باب: دية الجنين، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: ضربت امرأةٌ ضَرَّةً لها بِعمُودِ فُسْطَاطٍ، وهي حبلى فقتلتها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة.
وروي البخاري [6512] في الديات، باب: جنين المرأة..؛ ومسلم [1681] في القسامة، باب: دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أنَّ دِيَة المرأةِ على عاقلتها.
هذا ولقد قلنا: إن العاقلة هم عصبة الإنسان وأقاربه من جهة أبيه، ونقول هنا: إن المقصود بالعاقلة الذين يلزمهم أداء الدية إلى وليّ المقتول إنما هم عصبة الجاني المذكور، ما عدا الأصول والفروع، أما هم، فلا يتحملون من الدية شيئاً. ويقدّم الأقرب فالأقرب من عصبة الجاني، في تحمّل الدية.
ودليل على أن الأصول والفروع لا يدخلون في العاقلة، ولا يتحملون من الدية شيئاً: ما رواه أبو رمثة رضي الله عنه، قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ومعي ابني، فقال: "مَن هذا"؟ فقلتُ: ابني وأشْهدُ بهِ، قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه". (أخرجه أبو داود [4206] في الترجّل، باب: في الخضاب، والنسائي [8/53] في القسامة، باب: هل يؤخذ أحد بجريرة غيره؟).
[لا يجني عليك ولا تجني عليه: أي الوالد لا يضمن من جناية ابنه شيئاً، ولا يضمن الولد من جناية أبيه شيئاً].
وروي النسائي [7/176] في تحريم الدم، باب: تحريم القتل، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤخذ الرجل بجناية أبيه".
وقد روي أن أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم برّأَ الولد من عَقْل أبيه.
حكم النوع الثالث، وهو القتل الخطأ:
وللقتل الخطأ ـ وقد عرفت حقيقته ـ حكمان: الأول ديني أُخروي، والثاني دنيوي قضائي.
أما حكمه الديني الأُخروي فعفو لا إثم فيه ولا عقاب، لأنه عمل وقع خطأ من غير قصد، وقد جاء في الحديث: "إنَّ اللهَ تَجاوزَ عَنْ أُمَّتي الخطأ والنسيانَ، وما اسْتَكرِهُوا عليهِ". رواه ابن ماجة [2045] في الطلاق، باب طلاق المكره والناسي عن ابن عباس.
وأما حكمه في الدنيا فهو وجوب الدية على عاقلة القاتل، مؤجّلة إلى ثلاث سنوات، ومخفّفة: أي مقسمة إلى خمسة أنواع: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقّة، وعشرون جذعة.
أما وجوب الدية في القتل الخطأ، فيدل على قول الله عزّ وجل: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) (سورة النساء/ 92).
أما كون الدية في القتل الخطأ على العاقلة فلما قلنا إنها في القتل شبه العمد على العاقلة، فهي في الخطأ أولى أن تكون عليهم.
وأما كون الدية مخفّفة: أي في خمسة أسنان، فلما رواه الدار قطني [3/172] عن ابن مسعود رضي الله عنه، موقوفاً، أنه قال: (دية الخطأ أخماساً: عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض).
ومثل هذا الكلام من ابن مسعود رضي الله عنه، له حكم الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من المقدَّرات، وهي ليست مما يقال بالرأي.
وأما كون الدية في قتل الخطأ مقسطة في ثلاث سنوات، فلما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، أنهم قضوا بذلك ولم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فكان إجماعاً، وهم رضي الله عنهم لا يقولون مثل هذا إلا بتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بنت مخاض: هي التي لها سنة من الإبل، وطعنت في السنة الثانية، وسمِّيت بنت مخاض، لأن أمها بعد سنة تحمل مرة أُخرى، فتصير من المخاض: أي الحوامل.
بنت لبون: هي التي لها سنتان من الإبل وطعنت في الثالثة، سمِّيت بنت لبون، لأن أُمها آن لها أن تلد فتصير لبوناً.
وقد مرَّ أُمها بيان الحقة والجذعة.
الحكمة في تخفيف الدية في القتل الخطأ وجعلها على العاقلة:
قلنا إن القتل الخطأ وقع بغير قصدٍ، ولم يكن مراداً للقاتل، فلذلك ناسب أن تخفَّف الدية فيه، ولا يكلَّف المخطئ ما يكلفه المعتدّي، الذي باشر القتل قصداً.
ولما كان هذا شأن المخطئ، كان من الحكمة أن يواسيه الأدنون من عصباته، ويحملون عنه هذا الغُرْم الموجع، ويكفيه هو ما يحمله من الكفّارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. قال الله عزّ وجل: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا..) ثم قال عزّ وجل: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيماً) (سورة النساء/ 92).
تغليظ الدية في القتل الخطأ في بعض الأحوال:
ذكر علماء الشافعية أن الدية في القتل الخطأ تغلّظ في بعض الحالات، ويكون تغليظها من حيث وجوب التثليث فيها فقط (ثلاثون حقة، ثلاثون جذعة، أربعون خلفة).
وهذه الحالات التي تغلَّظ فيها هي:
أ_ إذا وقع القتل في حرم مكة، وحدود الحرم مذكورة كتاب الحج، وهي الحدود التي يحرم الاصطياد داخلها، وذلك احتراماً لهذا البيت، ورعاية لزيادة الأمن فيه. قال الله عزّ وجل: (وَمَن يُردْ فِيِه بِإلحادٍ بِظُلمٍ نُّذقهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (سورة الحج/ 25).
[بإلحاد بظلم: ميل عن الحق بسبب الظلم].
ب_ إذا وقع في الأشهر الحُرُم، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، لحرمة هذه الأشهر، ومنع ابتداء القتال فيها.
قال عزّ وجل: (يَسأَلُونَكَ عَن الشَّهرِ الحَرامِ قِتَالٌ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبيرٌ) (سورة البقرة/ 217) أي: كبيرٌ إثمه.
وقال تبارك وتعالى: (يَا أيُّها الَّذينَ أَمنُوا لاَ تُحلُّوا شَعائرَ اللهِ وَلاَ الشَّهرَ الحَرَامَ) (سورة المائدة/ 2).
[لا تحِلّوا: لا تستحلوا وتجيزوا. شعائر الله: جمع شعيرة، أي معالم دينه، وأحكام شرعه، مثل الصيد في الحرم. ولا الشهر الحرام: أي بالقتال فيه].
ج_ إذا وقع القتل الخطأ على محرم ذي رحم، كالأُم، والأُخت، والعم، والخال، ونحوهم من كل ذي رحم محرم.
ودليل التغليظ في هذه المواضع عمل الصحابة رضي الله عنهم، وإن اختلفوا في كيفية التغليظ ـ وقد عرفت مذهب الشافعي في ذلك ـ ومثل هذا الحكم منهم لا يدرك بالاجتهاد، بل بالتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.
اشتراك جماعة بقتل شخص واحد:
إذا اشترك جماعة ـ اثنان أو أكثر ـ في قتل شخص واحد من المسلمين، وذلك بأن كان عمل كل واحد منهم ـ لو انفرد ـ مزهقاً للروح وقاتلاً، ثبت القصاص على كل واحد من أولئك المشتركين في قتله.
أما إذا جرحه واحد منهم، وكان الجرح غير قاتل، ثم قتله الآخر، فأجهز عليه، كان الثاني هو القاتل، وثبت عليه القصاص، وأما الجارح الأول، فعليه ما يستحق من قصاص جرح، أوديته. ولو جرحه أحدهم جرحاً، فأنهاه إلى حركة مذبوح، وذلك بأن لم يبق معها إبصار، ولا نطق ولا حركة اختيار، وأصبح يقطع بموته من ذلك الجرح، ولو بعد أيام، ثم جنى عليه شخص آخر، فالأول هو القاتل، لأنه صيّره إلى حالة الموت. ويعزّر الثاني لهتكه حرمة الميت، كما لو قطع عضواً من ميت.
ويستَدلّ على ثبوت القصاص في حق الجماعة بقتل شخص واحد بما روي البخاري تعليقاً، في الديات، باب: إذا أصاب قوم من رجل، هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم؟، عن ابن عمر ابن رضي الله عنهما: أن غلاماً قُتلَ غِيلَةً، فقال عمر رضي الله عنه: (لو اشتركَ فيها أهلُ صنعاء لقتلتهم). وفي البخاري في نفس الباب؛ قال مغيرة بن حكيم عن أبيه: إن أربعة قتلوا صبياً، فقال عمر مثله.
[قتل غيلة: خديعة ومكراً من غير أن يعلم]
وهناك قصة ذكرها الطحاوي والبيهقي في سبب هذه الأحاديث، وهي أن المغيرة بن حكيم الصنعاني حدّث عن أبيه أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابناً له من غيرها غلاماً يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى، فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها، فقتلوه ثم قطعوه أعضاء، وجعلوه في عَيْبَة (وعاء من أدم) فطرحوه في ركية ـ البئر التي لم تطو ـ ليس فيها ماء، فذكر القصة، وفيه فأخذ خليلها فاعترف، ثم اعترف الباقون، فكتب يعلى ـ وهو يومئذ أمير ـ بشأنهم إلى عمر، فكتب إليه عمر بقتلهم جميعاً، وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين.
ويتعين القصاص من الجميع سدّاً للذرائع، فإن المعتدي إذا علم أن الشركة في العدوان تنجيه وتنجي المشتركين من القصاص التجأ إليها لإنفاذ جريمته، والفرار بعد ذلك من القصاص.
قال ابن قدامة: ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر.
اجتماع المباشرة والسبب في القتل:
إذا اجتمع في القتل الواحد المباشرة والسبب، فتارة يقدم السبب على المباشرة فيُقتصّ من المتسبّب، وتارة تقدّم المباشرة على السبب فيقتصّ من المباشر. وقد يستوي السبب والمباشرة، فهذه ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يشهد على الرجل شهود زور بأنه قاتل، فيقتله القاضي، فاعترف الشهود بتعمّد الكذب وأنهم شهدوا زوراً، فعليهم القصاص دون القاضي أو الولي إذا باشر القصاص وكان جاهلاً بكذب الشهود. فهنا قُدِّم السبب على المباشرة.
النوع الثاني: غلبة المباشرة على السبب، وذلك كأن يرميه رامٍ من شاهق فيتلقاه آخر بسيف فيقدّه نصفين، أو يضرب رقبته قبل وصوله إلى الأرض، فالقصاص على القادّ، ولا شيء على الملقى سوى التعزير، سواء عرف الحال أم لم يعرف.
ومثل ذلك إذا أمسكه شخص فقتله آخر، فالقصاص على القاتل، وليس على الممسك قصاص أو دية، وإنما عليه التعزير.
روي الدار قطني [3/140] عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك".
قال في بلوغ المرام: رجاله ثقات وصححه ابن القطان.
ويشترط في حال الإمساك هذه أن يكون القاتل مكلفاً، أما إذا كان القاتل صبياً أو مجنوناً فإن القصاص على الممسك، وكذلك إذا عرّضه لسبع ضار، ومثل ذلك لو ألقاه في ماء مغرق كلجّة بحر، فالتقمه حوت، سواء أكان الالتقام قبل الوصول إلى الماء أو بعده، فالقصاص على الملقي. أما إذا ألقاه في ماء غير مغرق فالتقمه حوت، فلا قصاص في هذه الحالة، لكن تجب عليه في هذه الحالة دية شبه العمد.
النوع الثالث: أن يتساوى السبب والمباشرة، كأن أكره إنساناً على قتل آخر، وجب القصاص عليهما، أما وجوب القصاص على المكرِه فلأنه أهلكه بما يقصد به الإهلاك غالباً، فأشبه ما لو رماه بسهم فقتله، وأما وجوب القصاص على المكره لأنه قتله عمداً عدواناً لاستبقاء نفسه.
هذا ولا فرق بين أن يكون المكره هو الإمام أو غيره.
أما لو أمره بقتل نفسه بأن قال له: اقتل نفسك وألا قتلتك، فقتل نفسه لم يجب القصاص في هذه الحالة، لأن هذا لا يعدّ إكراهاً حقيقة، لاتحاد المأمور به والمخوف منه، فصار كأنه مختار له. أما لو خوّفه بشيء أشد من القتل كالإحراق بالنار مثلاً فهو إكراه يجب فيه القصاص على المكره.
وكذلك إذا قال له اقتلني وإلا قتلتك فلا قصاص إذا قتله، لأن الإكراه شبهة يدرأ بها الحدّ.
هذا أمر السلطان شخصاً بقتل آخر بغير حق، والمأمور لا يعلم ظلم السلطان ولا خطأه وجب القود أو الدية والكفّارة على السلطان، ولا شيء على المأمور، لأنه آلته ولا بدّ منه في السياسة، فلو ضمناه لم يتولَ تنفيذ الحدِّ أحد، ولأن الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق، ولأن طاعته واجبة فيما لا يعلم أنه معصيته، وليس للمأمور أن يكفّر لمباشرة القتل.
وإن علم بظلمه أو خطئه وجب القود على المأمور، إن لم يخف قهر السلطان بالبطش بما حصل به الإكراه، لأنه لا يجوز طاعته حينئذ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" (رواه البخاري [4085] في المغازي، باب: سرية عبد الله بن حذافة السهمي؛ ومسلم [1840] في الإمارة، باب: وجوب طاعة الأُمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية). فصار كما لو قتله بغير إذن، ولا شيء على السلطان إلا الإِثم فقط فيما إذا كان ظالماً، وأما إن اعتقد وجوب طاعته في المعصية فالضمان على الإِمام لا عليه، لأن ذلك مما يخفى. فإن خاف قهره فكالمكره فالضمان بالقصاص وغيره عليهما.
فائدة: فيما يباح بالإكراه:
ذكر النووي في كتابه "روضة الطالبين" فصلاً يوضح فيه ما يباح بالإِكراه وما لا يباح، فقال رحمه الله تعالى:
(فصل: الإِكراه على القتل المحرم لا يبيحه، بل يأثم بالاتفاق إذا قتل، وكذا لا يباح الزنى بالإِكراه. ويباح بالإِكراه شرب الخمر، والإفطار في رمضان، والخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال الغير، ويباح أيضاً كلمة الكفر، وفي وجوب التلفّظ بها وجهان، أحدهما: وهو الصحيح، لا يجب للأحاديث الصحيحة في الحثّ على الصبر على الدين، واقتداءً بالسلف، فعلى هذا الأفضل أن يثبت ولا يتلفظ وإن قُتل، وقيل: إن كان ممّن يتوقع منه النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع؛ فالأفضل أن يتلفظ، وإلا فالأفضل الامتناع.
ولا يجب شرب الخمر عند الإِكراه على الصحيح، ويمكن أن يجيء مثله في الإفطار في رمضان، ولا يكاد يجيء في الإكراه على إتلاف المال.
ثم إذا أتلف مال غيره بالإكراه؛ فللمالك مطالبة المكره الآمر بالضمان، وفي مطالبة المأمور وجهان، أحدهما: لا يطالب لأنه إتلاف مُباح له بالإكراه، وأصحهما يطالب، لكنه يرجع بالمغروم على الآمر، هذا هو المذهب، وقيل: إن الضمان على المأمور ولا رجوع له، وقيل: يتقرّر الضمان عليهما بالسوية كالشريكين، والقول في جزاء الصيد إذا قتله المحرمِ مكرَهاً كالقول في ضمان المال).
حكم شريك مَن لا يُقتص منه:
إذا قتل شخص شخصاً وكان شريكاً في القتل لمن لا يقتص منه، فما الحكم في ذلك أيُقتص منه أم لا؟ لهذه المسألة صور كثيرة نوضِّحها فيما يلي:
الصورة الأولى: أن يكون شريكاً لمخطئ أو شريكاً لقاتلٍ شبه عمد، فهذا لا يقتص منه، لأن الزهوق حصل بفعلين أحدهما يوجبه والآخر ينفيه، فغلِّب المسقط، ولكنه يجب عليه في هذه الحال نصف الدية، دية العمد.
الصورة الثانية: أن يكون القاتل شريكاً للأب في القتل، فعلى القاتل هنا القصاص وعلى الأب نصف الدية مغلظة، لأن الأب لا يقتص منه.
الصورة الثالثة: أن يشارك عبد حراً في قتل عبد، فيقتص من العبد، لأنه لو انفرد بالقتل لاقتص منه، وأما الحرّ فلا يقتص منه لما سيأتي.
الصورة الرابعة: أن يشارك ذّمي مسلماً في قتل ذميّ، فهنا يقتصّ من الذمي، لأنه لو انفرد في قتله لاقتصّ منه، وأما المسلم فعليه نصف دية الذمي، وسيأتي مقدار دية الذمي.
الصورة الخامسة: أن يقطع شخص يد شخص قصاصاً أو حدّاً، فجرحه شخص آخر فمات بهما، فعلى الجارح الثاني القصاص.
الصورة السادسة: أن يشترك في القتل مع صبي أو مجنون، فعليه القصاص، وأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما.
وهناك صور أُخرى كثيرة تطلب في المطولات من الكتب.
-----------------------------------
عن (الفقه المنهجي) / ج8 ص9-27
بناء الإنسان هو الهدف الأسمى الذي نبذل كل جهد من أجل تحقيقه
سيدي صاحب السمو الشيخ
خليفه بن زايد ال نهيان
رئيس دولة الامارات العربية المتحدة
حفظه الله ورعاه